عِيدُ الجَيْشِ العِراقِيّ
بَيْنَ الذَّاكِرَةِ العَطِرة.. والمَهَام القَادِمَة
جيش العراق الباسل، جيش الوطن الغالي، وجيش الأمة العربية المجيدة الذي لم تثبت عليه أي ثلمه وطنية أو قومية أو قيمية عبر تاريخ كفاحه المجيد، هو نفسه الجيش البطل الذي سطر المآثر البطولية لحماية أرض العراق وشعبه ضد كل الغزاة، مثلما سطر المواقف الباسلة في شتى بقاع أرض العروبة عندما تحتاجه.
من يستعرض تأريخ جيش العراق يقف مذهولا أمام هذا السفر الخالد من الأمجاد والبطولات وصور العز والمجد والفخار وملاحم الإباء والشمم ، فسجل بأحرف من نور ذلك السجل الناصع من الوفاء لتربة العراق وأرضه ومائه وسمائه. ويشعر بالفخر والزهو لتلك المواقف البطولية في الدفاع عن أرض العراق ووحدته وفي الدفاع عن أرض العروبة وعن المقدسات وقيم ومبادئ الدين الحنيف.
انه جيش الشهداء الذي ساند الأمة بكل ما أوتي من قدرة وهمة ونخوة. فتلك هي أرض فلسطين التي تضم مقبرة الشهداء العراقيين في جنين، وتلك المقبرة العراقية للشهداء في دمشق. وهناك في أرض المفرق الأردنية مقبرة لشهداء الجيش العراقي البطل، وتلك أجواء سيناء المصرية شاهدة على مرور الطائرات المقاتلة العراقية من نوع هوكر هنتر لتنطلق في الطلعة الأولى قبل الطائرات المصرية لتدك معاقل وحصون الجيش الصهيوني في السادس من أكتوبر عام 1973 ، وتلك هي صواريخ الحسين التي حطمت نظرية الأمن الإسرائيلي بعد أن أخذت معها صواريخ الباتريوت الأمريكية المضادة للصواريخ لتدمر بها ومعها المواقع الإسرائيلية في تل أبيب والنقب وغيرهما عام 1991.
أن هذا السفر البطولي الخالد لم تثلمه الملمات والخطوب، ولم يسجل على هذا الجيش أي موقف شائن حتى وان غفل الزمان وتكاثرت الخطوب والنوائب، فهذا الجيش كان عنواناً للوطن، بل أنه بات مرادفاً للعراق، فلا يذكر اسم العراق إلا وذكر معه جيشه الجسور. ولقد عبّر هذا الجيش عن الوطنية بأبهى صورها، بل كان يمثل في ثناياه وحدة وطنية مصغرة تضم أطياف المجتمع العراقي كافة بعربه وكرده وتركمانه ويزيديه، ومن كل المذاهب الدينية دون تفرقة، بل دون معرفة المقاتل لرفيقه في السلاح دون أن يفكر أحدهم بمذهب رفيق سلاحه، أو قوميته، أو منطقته، أو عشيرته، بل يجمعهم حب الوطن والدفاع عن كرامته، والاستشهاد دونه. وبذلك فقد شكل الجيش العراقي الوطني النموذج الأمثل للوحدة الوطنية بتلك الفسيفساء التي تحمل وتحمي علم العراق، وليس علم الطائفة التي ابتكرتها إيران الشر في التنظيمات والمليشيات المسلحة التي يدّعون بأنها جزء من القوات المسلحة.
وعلى أثر انتهاء الحرب العالمية الأولى في جبهة العراق عام 1918 رزح العراق تحت الحكم البريطاني العسكري المباشر، وبعد اندلاع ثورة العشرين وتكبد القوات البريطانية خسائر فادحة شعر البريطانيون بخطأ السياسة التي انتهجوها في الحكم العسكري فقرروا إنشاء حكم محلي وطني دستوري يضمن لهم مصالحهم الأساسية، فتم تشكيل الحكومة المؤقتة في 25 تشرين الأول عام 1920 برئاسة عبد الرحمن النقيب وضمت الفريق جعفر العسكري وزيراً للدفاع الوطني والذي أخذ على عاتقه تشكيل الجيش العراقي.
وفي ذلك اليوم الخالد، الخميس الموافق السادس من كانون ثاني عام 1921 ميلادي أعلن عن تأسيس الجيش العراقي. وعلى الرغم من أن هذا الجيش تشكل في ظل الاحتلال البريطاني، إلا أنه لم يرضخ يوماً لإرادة المحتل ولم يسجل التاريخ أنه كان يوماً تابعاً له أو يأتمر بأوامره أو يقف معه ضد إرادة شعب العراق، على النقيض مما نراه اليوم من التبعية المطلقة للاحتلال الإيراني فما تسمى القوات العسكرية والأمنية والمليشيات المسلحة التي يدعون بأنها جزء من القوات المسلحة العراقية زيفا وكذبا، والتي ترفض جهاراً رفع علم الوطن.
كان أبناء جيش العراق في طليعة المخلصين من أبناء الشعب لقيادة انتفاضاته وحركاته المسلحة ضد المحتل البريطاني، وقدم في سبيل ذلك كوكبة من الشهداء في حركة مايس 1941 م. تلك الثورة التي قادها مجموعة من الضباط الذين تميزوا بشجاعتهم وانتماءهم الوطني وعدم مهادنة بريطانيا، والتي كانت مدخلا مهما من ملاحم النضال في سبيل حرية العراق واستقلاله. كما واصل هذا الجيش كفاحه للتحرر من الاستعمار وطرد المحتلين.
محطات من المآثر القومية والوطنية
دور الجيش العراقي في فلسطين
لـقد أثبت جيش العراق العظيم انه جيش الأمة العربية أينما دعت الحاجة له. فعقيدته العسكرية ارتكزت على المبادئ القومية وتاريخ الأمة. ولذا فقد كان يدافع عن البوابة الشرقية للوطن العربي دفاعا عن الأمة بأسرها، مثلما كان يتنقل في أرض العروبة للدفاع عنها. وقد جعل من قضية فلسطين تاجاً على رأسه وارتبط أسم فلسطين باسم جيش العراق ولم يتخلف يوماً عن الجهاد ضد الصهاينة الغاصبين.
فمنذ ان دخل الجيش العراقي أرض فلسطين في عام 1948 تواصلت عملياته العسكرية ضد العصابات الصهيونية وألحق بهم الخسائر المتتالية، ولعل أفضل نموذج لتلك العمليات ما قام به الفوج الثاني من اللواء الخامس الذي حرر جنين بقيادة العقيد الركن عمر علي بعملية عسكرية بطولية بتأريخ 3 – 4 حزيران يونيو عام 1948م بالتعاون مع الفوج الثاني من اللواء الرابع، حيث اندفع عمر علي بفوجه ليلاً مشتبكاً مع القوات الصهيونية التي أجبرت على الفرار مذعورة بعد تكبدها أكثر من 100 قتيل و65 جريح. وها هي مقبرة الشهداء في جنين شاخصة تحكي قصة البطولات للأجيال كافة معبرة عن عشق الجيش العراقي لفلسطين. فما إن تصل إلى المدخل الجنوبي لمدينة جنين، وتحديداً على مفترق الطريق المؤدي إلى بلدة قباطية وقرية مثلث الشهداء المجاورة، حتى تأخذك عيناك إلى مقبرة وضعت على البوابة الرئيسة لمدخلها يافطة قديمة كتبت عليها عبارة (مقبرة شهداء الجيش العراقي (..
وقد شارك جيش العراق في تحرير قسم كبير من فلسطين وكان على وشك إسقاط تل أبيب لولا المؤامرة الدولية التي أوقفت القتال يوم 11 حزيران يونيو 1948 مما فسح المجال أمام العصابات الصهيونية لإعادة تكوين قدراتها من جديد.
دماء الوفاء والانتماء.. من المفرق الى جنين
في يوم السادس من كانون ثاني من كل عام تجرى مراسم إحتفائية بزيارة مقبرة شهداء الجيش العراقي في مدينة المفرق الاردنية، ومن بين كل القبور التي تحمل الشواهد بأسماء الشهداء ورتبهم العسكرية، كان هنالك قبر واحد كتب على شاهده (الشهيد مجهول الهوية)، وعند مقدمة الضريح كان بعض من الزوار يتأملون القبر ويقرأون سورة الفاتحة، وكأن لسان حالهم يحدثونه بإن أهله في العراق يعرفونه، وهم بخير وأوفياء دوما لنبل تضحياته، وهو خالد في ضمائرهم بالرغم من الجراح العميقة التي اصابتهم بعدما وطأة أرض العراق الطاهرة أقدام الغزاة الامريكية والصفوية. وفي جنين الفلسطينية هنالك شهيد عراقي آخر مجهول الهوية، سقط في معارك العز لتحرير فلسطين، ودفن في بستان مواطن في حي من أحياء المدينة القديمة، وان أهل الدار والبستان والحي يعرفونه وتجري زيارته في الاعياد لقراءة سورة الفاتحة واستذكار دور الجيش العراقي في الدفاع عن فلسطين.
وفي نكسة سنة 1967م والتي دمر الكيان الصهيوني يوم الخامس من حزيران يونيو أغلب القواعد الجوية المصرية والسورية، انتفض العراق بقواته الجوية ليحقق في أكبر وأسرع عملية جوية سميت (عملية البرق) في اليوم الثاني من الحرب، موقفا مذهلا أربكت فيه المخطط الصهيوني، فكان رداً سريعا ومتميزا بالرغم من عدم وجود خطة عربية مشتركة تضم الجيش العراقي. ومع ذلك استطاعت هذه القوة تنفيذ عديد من الواجبات في العمق الإسرائيلي انطلاقا من قاعدة الوليد الجوية، وقاعدة تموز في الحبانية التي تضم اسراب القاصفات الاستراتيجية تي يو 16 باجر، وقد قصفت المقاتلات العراقية. تل ابيب – ناتانيا – كفر سركين بهجوم صاعق وأ0وقعت في صفوف العدو خسائر فادحة.
أما في حرب اكتوبر تشرين أول عام 1973م فقد قام الجيش العراقي بدور بطولي عندما ساهم في إيقاف التقدم الإسرائيلي تجاه العاصمة السورية دمشق بعد أن زحف بدباباته على السرف من أعماق العراق إلى الجبهة السورية الإسرائيلية مما أدى إلى تغيير في موازين القوى، فألحق بالجيش الإسرائيلي خسائر فادحة. وشارك الجيش العراقي بأكثر من عشرين ألف مقاتل من الفرقة المدرعة الثالثة، والفرقة المدرعة السادسة، وفرقة المشاة الآلية الخامسة،
وفرقة المشاة الرابعة ، وكانت عموم القوات البرية منهمكة بالتدريب في مناطق تواجدها، وبالرغم من عدم اشعار العراق بالهجوم المصري والسوري، فانه
وحال سماع نشوب الحرب يوم السادس من اكتوبر، أصدرت القيادة العامة للقوات المسلحة أوامرها الى تشكيلاتها المدرعة والآلية السريعة للحركة فوراً الى الجبهة الشمالية ( سوريا)، ونظرا لمحدودية توفر ناقلات الدبابات، وبغية الوصول بأسرع ما يمكن، تمت حركة القوات المدرعة والألية لمسافة حوالي 1300 كيلومتر على السرف ( الجنازير). وقد سجل التأريخ العسكري تلك الحركة باعتبارها من الأساطير العسكرية في عمليات التنقل والتحشد تحت نظر القوات الجوية الاسرائيلية. وحال وصول طلائع القوات العراقية اشتبكت مع قوات العدو الصهيوني، وخاضت عدة معارك على سفوح تل عنتر. وتل قيطه وقباطيه وتل المال وجبات الخشب.. مع قطعات جيش الكيان الصهيوني. وكان أهم وأخطر موقف تمثل في اقتراب قوات الجيش الاسرائيلي من العاصمة دمشق. ولكن الهجوم العراقي المقابل كان قد أذهل العدو باندفاع ارتال دبابات كتيبة قتيبة وكتيبة دبابات المعتصم العراقيتين من لواء 12 المدرع.. واللتان اوقفتا اندفاع اللواء 79 الاسرائيلي نحو دمشق وبذلك تمت حماية دمشق من السقوط بيد الصهاينة..
أما على الجبهة المصرية، فقد شاركت القوة الجوية العراقية بسربين من طائرات الهوكر هنتر وهما (السرب السادس والسرب 29) واللذان كانا متواجدان في مطار قويسنا في محافظة المنوفية وكانت من اوائل الطلعات الجوية ضد العدو حيث قصفت رادارات العدو في سيناء ومرابض مدفعية العدو 175 ملم في الطاسه وغيرها.
الحرب الايرانية العراقية
وعلى المستوى الوطني فقد كان جيش العراق هو الدرع الحامي لوحدة اراضي العراق ووحدة شعبه كما كان الحامي لسور الوطن والبوابة الشرقية للوطن العربي. وتجسد ذلك في الحرب الايرانية العراقية التي دامت لثمان سنوات متواصلة. ففي الوقت الذي كان يعد فيه الخميني لغزو العراق ودول عربية أخرى، استطاع الجيش العراقي صد هجمات الجيش الإيراني والحرس الثوري. و استطاع الجيش العراقي الدخول الى عمق الأراضي الإيرانية حتى وصل الى مشارف كرمنشاه. واستطاع السيطره على مدينة المحمرة وعبادان وكثير من مدن عربستان التي تقع في اقليم الاحواز ذات الغالبية العربية.
واثناء الحرب قام الجيش العراقي بالاستيلاء على المعسكرات الايرانية في المناطق التي سيطر عليها واستولى على اسلحتها من دبابات الى مدرعات ومختلف الأسلحة حيث شكل اسطولاً جديداً من الدبابات الايرانية نوع جيفتاين Chieftain البريطانية الصنع، والتي تم اهدائها الى الاردن. وكانت الحرب قد استمرت سجالا بين الطرفين حتى شهر نيسان/ ابرسل عام 1988م حيث شهدت تطبيقاً حياً للاستراتيجية العسكرية العراقية المعتمدة على العقيدة القتالية الدفاعية التعرضية.
فبعد ان تمكنت ايران من احتلال مناطق مهمة من الاراضي العراقية الحدودية مثل مثلث الفاو ومنطقة الشلامجة وجزر مجنون النفطية ومنطقة الزبيدات ومناطق اخرى من جبهات القتال، اعدت القيادة العامة للقوات المسلحة خطة عسكرية تعرضية طموحة كانت من افضل ما شهدته الاستراتيجية العسكرية العراقية من تطبيق لمبادئ الحرب وخاصة مبادئ المباغتة والتحشد والعمليات التعرضية والأمن والشؤون الادارية وغيرها ليبدأ تنفيذها في السابع عشر من نيسان عام 1988م بالهجوم على القوات الايرانية الهائلة التي رتبت دفاعاتها بأسلوب وحجم لا يمكن لأي مراقب او قائد عسكري توقع إمكانية اختراق الدفاعات والقطعات الايرانية المحتشدة في منطقة الفاو لما شملته من تحصينات متتالية وصعبة، و حشد ناري وبشري هائل.. الا ان القوات العراقية تمكنت من تحقيق نصر عسكري سريع ومباغت خلال ساعات لم تتجاوز الست والثلاثين ساعة وليس أياماً.
ففي اليوم الأول من شهر رمضان المبارك انطلقت القوات العراقية من خطوط شروعها وانجزت مهامها قبل غروب اليوم التالي ثم توالت العمليات التعرضية العراقية في المناطق الأخرى المحتلة الكائنة شمالاً، فاحتشدت في منطقة الشلامجة بعد اقل من شهر لتجهز على القوات الإيرانية وتحرر هذه المنطقة لتنتقل بسرعة إلى جزر مجنون وتحطم القوات الايرانية فيها وتأسر الآف منها، وهكذا استمرت العمليات لتشمل منطقة الزبيدات ثم القاطع الأوسط حتى استعادت كل الأراضي العراقية المحتلة بعد أن اوقعت خسائر هائلة في صفوف واسلحة ومعدات وتجهيزات القوات الايرانية والتي فرضت على الحرب ان تضع اوزارها بالنصر العراقي بعد اعلان خميني تجرعه للسم الزعاف والموافقة على قرار مجلس الامن الدولي(598) ليعلن رسميا بتاريخ 8/8/1988م عن النصر العراقي المؤزر.
الانضباط والتدريب والجاهزية القتالية
يعتبر الانضباط العسكري بمثابة العمود الفقري للقوات المسلحة، وهو الميزة الأساسية التي تميزه عن باقي مؤسسات المجتمع. وهكذا كان جيش العراق، جيشا منضبطا بامتياز. ويأتي الانضباط العسكري في طليعة قيم شرف الجندية العراقية، ويعتبر من أهم متطلبات العمل ألاحترافي العسكري، وبه تميز المقاتل العراقي عن الآخرين. وهو يمثل إرادة العسكري بوضع حياته في خدمة وطنه، والحفاظ على الثوابت الوطنية التي تشكل الوحدة الوطنية واحدة من أهمها، ومن هذا الباب فان العسكري العراقي كان مستعداً لتنفيذ كل المهام التي توكل إليه مهما كانت، وأثبت تأريخ المعارك التي خاضها ذلك سواء في الدفاع عن العراق، أو في المعارك التي خاضها دفاعاً عن الأمة العربية.
أما التدريب العسكري فقد كان أحد أهم عناصر تنمية الضبط، فهو يحقق زيادة كفاءة المقاتل، وتنمية ثقته بنفسه، وبه تقوى غريزة الطاعة والنظام ويتمكن القائد من إصدار الأوامر لتنفيذها الطوعي والغريزي من قبل المقاتلين. وفي مجال الجاهزية العراقية، فقد كان الجيش العراقي الوطني يتمتع بأعلى درجاتها، والتي تعني ذلك المستوى الرفيع أو المتكامل أو العال من الاستعداد المادي والمعنوي لمفاصل القوات المسلحة كافة من خلال جوانبها التدريبية والتسليحية والتنظيمية والمعنوية وفقا لأحدث الأساليب والوسائل والسبل العلمية والتقنية المتاحة، والتي تؤهلها لتنفيذ مهامها الوطنية والقومية في السلم والحرب.
وبالطبع فان ذلك تطلب التركيز على الجانب النوعي، و تطوير المعاهد والكليات والمدارس العسكرية التخصصية لمواصلة التأهيل والتدريب بما يواكب استيعاب العلوم العسكرية والتكنيك العسكري الحديث. اضافة إلى التأكيد على التنفيذ المبدع والخلاق للضباط والمقاتلين، وتحسين المستوى المعيشي والصحي للمقاتلين ولأسرهم وتأمين الغذاء المناسب والملبس اللائق لمظهرهم العسكري. وهنا لابد من الإشارة الى متناقضين، بين الثريا التي توهجت في نفوس أبناء الجيش العراقي الوطني بما كانوا يمتلكون من ثقافة وفكر نير وعقل سليم ورؤى ثاقبة، وقناعة بعدالة القضية الوطنية التي يؤمنون بها ويدافعون عنها، وبين الثرى التي اعمت بصر وبصيرة الأفراد الذين ينتسبون الى القوى الأمنية والعصابات المليشياوية الذين لا يمتلكون سوى الانقياد الأعمى والضلالة والتبعية والجهالة لأحزابهم وقادة فصائلهم..
المعايير الأساسية في بناء جيش العراق
البناء القيادي
كانت منظومة انتقاء القادة العسكريين والسلوكيات المشتركة و التقاليد العسكرية، في غاية الدقة. فالقائد العسكري العراقي الناجح المعتَمَد هو الذي يمتلك سمات الابداع، والمبادرة، والمرونة، والانضباط النفسي، والثقة، والبت في الأمور، والتحمل، والصبر، والبساطة، ورعاية رجاله رعاية نفسية. وهو بعد ذلك كله القائد العادل، الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم، ولا تغويه مغريات السلطة التي وضعت أمانة في عنقه. وأخيراً فهو القائد النزيه الذي لم يستغل منصبه لتحقيق مآرب نفعية ذاتية. وهكذا كان القادة في جيشهم الوطني قبل الاحتلال الغاشم لبلادنا الجريحة، على النقيض تماما من الذين يحكون ويتحكمون بمؤسسات الدولة كافة ومنا القوات المسلحة والأمنية والمليشياوية التي عم الفساد المالي والإداري في صفوفها دون وازع أخلاقي أو ديني أو رقيب إداري.
البناء المعنوي
يعتبر البناء المعنوي بمثابة الأداة الأولى للقتال، فالروح المعنوية تعني روح القتال، التي يترتب عليها كسب المعارك، لأنها تشمل صفات الجند وأخلاقهم وحسن انتظامهم وشجاعتهم وإخلاصهم وقوة احتمالهم وقدرة قادتهم وكفاءتهم وإيمانهم بأحقية المبدأ الذي يحاربون من أجله. وهكذا كان المقاتل العراقي الباسل الذي تحمل المشاق والصعوبات بشجاعة فائقة ومقدرة على خوض الحرب بكفاءة واندفاع. بل حتى في كونه مشروعاً للاستشهاد من اجل وطنه وهدفه الأسمى. وهذا ما تجسد بالفعل التأثيري الكبير لشهداء جيش العراق في سوح الوغى سواء للدفاع عن ارض العراق او ارض الامة العربية جمعاء.
البناء الاجتماعي
القوات المسلحة العراقية الوطنية هي طليعة المؤسسات الوطنية في تطبيق مبادئ العدالة والمساواة بين صفوفها، انبثقت من الشعب وضمت في ثناياها أبناء الوطن من مختلف الشرائح والمناطق، تتساوى بينهم الحقوق والواجبات، ويتعزز فيهم الانتماء للوطن. ورسخت هذا الانتماء من خلال تحقيق التفاعل الحي والتواصل المتين بين أبناءها من جهة وبين عموم أبناء الشعب من جهة أخرى باعتبارها طليعتهم في الدفاع عنهم.
وكان الجيش أساس وحدة العراق اذ يجمع أبناء المجتمع على اختلاف مناطقهم وانتماءاتهم ويصهرهم في وحدة تستند إلى القيم الكريمة، والمبادئ القويمة، والمثل السامية، والأهداف المشتركة لأبناء الوطن الواحد ، وهي في ذلك كانت تعتمد التربية القاسية والنظام القوي لتجعل من المنضوين تحت لوائها مثالاً للرجولة. فكانت حياة المقاتل العراقي حياة الجهاد المستمر، من أجل ضمان عزة الوطن وأمنه والحفاظ على استقلاله وتاريخه و مستقبل أطفاله. ومن هنا كان أبناء الشعب يقّدروا حجم المسئولية التي كانت تلقى على عاتق هذا البطل ومن هذا الدور استمدت الجندية سمو رسالتها وشرف هالتها القدسية.
البناء التربوي
كان تطبيق الأنظمة والقوانين السبيل الأساس لضمان انتظام العمل في الجيش العراقي وضمان نجاحه في أداء مهامه، فكان الالتزام بها هو من القيم والمبادئ الراسخة لدى المقاتلين . فالقانون العسكري كان سيد الأحكام الذي يكفل حماية ورعاية حقوق الجميع، وتطبيق ما تفرضه عليهم واجباتهم.
أما في مجال التربية العسكرية، فقد تميز النظام باستثمار الوقت بدقة متناهية، فكان هناك برنامج يومي دقيق للعمل العسكري يبدأ منذ النهوض الصباحي وحتى النوم بنشاطات متنوعة ومحددة ضمن توقيتات معينة. وكانت وسائل الثقافة العسكرية المقروءة والمرئية والمسموعة تلعب دوراً مهماً في بناء شخصية المقاتل القادر على مواكبة مهام الحاضر والمستقبل بكل أبعادها التقنية والمعرفية العسكرية.
البناء الإداري
الإدارة العسكرية النموذجية في الجيش العراقي هي علم وفن تخطيط وتنظيم وتوجيه وتوظيف الموارد البشرية والمادية والمعلوماتية لتحقيق أفضل النتائج بأقل وأسرع الجهود. فتم اعتماد الارشفة والتوثيق بأعلى وأدق التفاصيل. فالمعلومات تعتبر ذات قيمة وأهمية لا تقل عن باقي الموارد، كالموارد البشريه، والمادية، والطبيعية. وكانت الادارة العسكرية تعتمد على الاحاطة أولا بالمعلومات والبيانات لضمان اتخاذها للقرارات الصائبة. واعتمدت عملية الأرشفة الالكترونية على توصيف وتصنيف الوثائق بدقة خاصة بعد الانفجار الكمي والنوعي للمعلومات، من خلال مديرية متخصصة ضمن تشكيلات الجيش هي (مديرية الوثائق العسكرية).
وأخيرا ففيما ذكرنا من استعراض سريع لسفر الجيش العراقي الوطني الجسور، إنما هي حقائق من أرض الواقع، وهي وقفة أخلاقية ومبدئية أمام التاريخ. وأمام العراق العظيم وشعبه المجاهد والمبتلى والصابر، المتصل بالله وبالقدر إلى ما شاء الله.
وإذا كان الأعلام الدكتاتوري العالمي الذي سيطرت عليه قوة طاغية، قد أعطى صورته الزائفة، وطروحاته الكاذبة لتشويه صورة جيش العراق الباسل، فأن شمس الحقيقة لا يمكن أن تغيب إلى الأبد.. ومع شروقها تتنور العقول وتتجلى حقائق الأمور بإزاحة الضباب عنها.. والحقيقة أصلا مستقرة في الذهن وفي البصيرة وفي القلب المؤمن، نورٌ قويٌ واضح تتميز به حقائق الأشياء، ويسّهل على أهل النور الإدراك والتحسس من أن منازلة الباطل ومكافحة احتلاله لا تكلفهم من الجهد أكثر مما يتكلفون في إزالة الزبد من على وجه الماء.
ولذا فان الاحتلال الأمريكي لعراقنا الجريح ومن بعده الاحتلال الإيراني الطائفي البغيض سيزولان قريبا بإذن الله وستعود للعراق وجيشه الوطني مكانتهم ودورهم الوطني والقومي الفاعل للنهوض من جديد ورسم المستقبل الزاهر لأجيالنا بعد التضحيات الجسام التي قدمها الآباء والأجداد للحفاظ على تراث وتأريخ العراق التليد، وجيشه المقدام الذي تنتظره مهام جسام بعد إزالة ذلك الزبد الخبيث من على وجه ماء العراق العذب. والله المستعان.
مكتب الثقافة والإعلام القومي
6/ كانون الثاني/2025